الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } «خلائف» جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خَلَفاً للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشمّاخ:
تصيبُهُم وتخطِئني المنايا   وأخلُف في رُبوع عن رُبوعِ
{ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } في الخلق والرزق والقوّة والبَسْطة والفضل والعلم. { دَرَجَاتٍ } نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. { لِّيَبْلُوَكُمْ } نصب بلام كَيْ. والابتلاء الاختبار أي ليظهر منكم ما يكون غايته الثواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنِيًّا فٱبتلى الموسِر بالغنى وطلب منه الشكر، وٱبتلى المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال: «ليبلوكم» أي بعضكم ببعض. كما قال:وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [الفرقان: 20] على ما يأتي بيانه. ثم خوّفهم فقال: { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } لمن عصاه. { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أطاعه. وقال: «سَرِيعُ الْعِقَابِ» مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أنّ عقاب النار في الآخرة لأن كل آت قريب فهو سريع على هذا. كما قال تعالى:وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77]. وقال:يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج: 6 و7]. ويكون أيضاً سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا فيكون تحذيراً لمُواقِع الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم. تمت سورة الأنعام بحمد الله تعالى وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.