الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

قوله تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } أي مالكه. روي أن الكفار قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ٱرجع يا محمد إلى ديننا، وٱعبد آلهتنا، وٱترك ما أنت عليه، ونحن نتكفّل لك بكل تِباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. و«غير» نصب بـ«ـأبْغِي» و«رَبًّا» تمييز. قوله تعالى: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي لا ينفعني في ابتغاء ربٍّ غير الله كونكم على ذلك إذْ لا تكسب كل نفسٍ إلا عليها أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها. الثانية: وقد استدلّ بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفُضُوليّ لا يصح، وهو قول الشافعيّ. وقال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا بدليل قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } على ما يأتي. وبيع الفُضُولِيّ عندنا موقوف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز. هذا عُرْوة البارِقيّ قد باع للنبيّ صلى الله عليه وسلم واشترى وتصرّف بغير أمره، فأجازه النبيّ صلى الله عليه وسلم وبه قال أبو حنيفة. وروى البُخارِيّ والدَّارَقُطْنِيّ " عن عُروة بن أبي الجَعْد قال: عرض للنبيّ صلى الله عليه وسلم جَلَب فأعطاني ديناراً وقال: «أيْ عُرْوة ٱيت الجَلَب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار» فأتيتُ الجَلَب فساومْتُ فٱشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما ـ أو قال أقودهما ـ فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم. قال: «كيف صنعت»؟ فحدّثته الحديث. قال: «اللَّهُمّ بارك له في صفقة يمينه». قال: فلقد رأيتُني أقف في كُناسة الكوفة فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصِل إلى أهلي " لفظ الدَّارَقُطْنِيّ. قال أبو عمر: وهو حديث جيّد، وفيه صحة ثبوت النبيّ صلى الله عليه وسلم للشاتين، ولولا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع. وفيه دليل على جواز الوكالة، ولا خلاف فيها بين العلماء. فإذا قال الموكل لوكيله: ٱشتر كذا فاشترى زيادةً على ما وُكّل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا؟. كرجل قال لرجل: ٱشتر بهذا الدّرهِم رِطل لحم، صفته كذا فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم. فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها لأنه مُحْسِن. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وهذا الحديث حُجّة عليه. قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي لا تحمل حاملةٌ ثِقْل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بِجُرْمها ومعاقبة بإثمها.

السابقالتالي
2