قلت: وهذا ما رأيته قاله غيره. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الإجماعَ في أن سورة «الأنعام» مكية إلا قوله تعالى: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» الثلاث الآيات، وقد نزل بعدها قرآن كثير وسُنَن جمّة. فنزل تحريم الخمر بالمدينة في «المائدة». وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كلّ ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا كله يدل على أنه أمرٌ كان بالمدينة بعد نزول قوله: «قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً» لأن ذلك مَكيّ. قلت: وهذا هو مَثار الخلاف بين العلماء. فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث. وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة «الأنعام» مكية نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرّم أموراً كثيرة كالحُمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطير. قال أبو عمر: ويلزم على قول من قال: «لا محرم إلا ما فيها» ألا يحرّم ما لم يذكر ٱسم الله عليه عمداً، وتُستحلّ الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد فيما أوحيّ إليه محرماً غير ما في سورة «الأنعام» مما قد نزل بعدها من القرآن. وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال مرة: هي محرمة لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك، وهو الصحيح من قوله على ما في الموطأ. وقال مَرّة: هي مكروهة، وهو ظاهر المدَوّنة لظاهر الآية ولما روي عن ٱبن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها، وهو قول الأوزاعيّ. روى البخاري من رواية عمرو ابن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكَم بن عمرو الغفاريّ عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحرُ ٱبن عباس، وقرأ «قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً». وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له: حديث أبي ثعلبة الخُشَني فقال: لا نَدَع كتابَ الله ربِّنا لحديث أعرابيّ يبول على ساقيه. وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية: وقال القاسم: كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حَرُم كل ذي ناب من السباع: ذلك حلال، وتتلوا هذه الآية { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } ثم قالت: أن كانت البُرْمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحرّمها.