الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ }

فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { أَنشَأَ } أي خلق. { جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ } أي بساتين ممسوكات مرفوعات. { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } غير مرفوعات. قال ٱبن عباس: «مَعْرُوشَاتٍ» ما ٱنبسط على الأرض مما يفْرِشُ مثل الكروم والزروع والبَطّيخ. «وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل: المعروشات ما ٱرتفعت أشجارها. وأصل التعريش الرفع. وعن ٱبن عباس أيضاً: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدل عليه قراءة عليّ رضي الله عنه «مَغْرُوسَاتٍ وَغَيْرَ مَغْرُوسَاتٍ» بالغين المعجمة والسين المهملة. الثانية: قوله تعالى: { وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ } أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على ما تقدم بيانه في «البقرة» عند قوله:مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ } [البقرة: 98] الآية. { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } يعني طعمه منه الجيّد والدُّون. وسمّاه أكلاً لأنه يؤكل. و«أُكُلُهُ» مرفوع بالابتداء. و«مُخْتَلِفاً» نعته ولكنه لما تقدم عليه ووَلِي منصوباً نُصب. كما تقول: عندي طباخاً غلام. قال:
الشَّرُّ مُنْتَشِرٌ يَلقاك عن عُرُض   والصالحاتُ عليها مُغلقاً بابُ
وقيل: «مُخْتَلِفاً» نصب على الحال. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه مسألة مُشْكِلة من النحو لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقوله: «خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» فأعلم أنه أنشأها مختلفاً أكلها أي أنه أنشأها مقدّراً فيه الاختلاف وقد بيّن هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صَقْرٌ صائداً به غداً، على الحال كما تقول: لتدخلُنّ الدار آكلين شاربين أي مقدّرين ذلك. جواب ثالث: ـ أي لما أنشأه كان مختلفاً أكله، على معنى أنه لو كان له أكُلٌ لكان مختلفاً أكله. ولم يقل أكلهما لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله:وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] أي إليهما. وقد تقدّم هذا المعنى. الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ } عطف عليه { مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } نصب على الحال، وقد تقدم القول فيه. وفي هذه أدلة ثلاثة أحدها: ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدّ لها من مغيِّر. الثاني: على المِنَّة منه سبحانه علينا فلو شاء إذ خلقنا ألاّ يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألاّ يكون جميل المَنْظر طيّب الطعم، وإذْ خلقه كذلك ألاّ يكون سهل الجَنْيِ فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء لأنه لا يجب عليه شيء. الثالث: على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرّسوب يصعَد بقدرة الله الواحِد عَلاّمِ الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا ٱنتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراقٌ ليست من جنسها، وثمرٌ خارج من صفته الجِرْم الوافر، واللون الزاهر، والجَنَى الجديد، والطعم اللذيذ فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأُناسُها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتّب هذا الترتيب العجيب! كلا! لا يتم ذلك في العقول إلا لِحَيّ عالمٍ قديرٍ مُريدٍ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10