الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً } فيه مسألة واحدة: ويقال: ذرأ يذرأ ذرءاً، أي خلق. وفي الكلام حذف وٱختصار، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيباً دلّ عليه ما بعده. وكان هذا مما زيّنه الشيطان وسوّله لهم، حتى صَرَفُوا من مالهم طائفةً إلى الله بزعمهم وطائفةً إلى أصنامهم قاله ٱبن عباس والحسن ومجاهد وقَتادة. والمعنى متقارب. جعلوا لله جزءاً ولشركائهم جزءاً، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سَدَنتها عوّضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنفاق على الضِّيفان والمساكين لم يعوّضوا منه شيئاً، وقالوا: الله مُستغْن عنه وشركاؤنا فقراء. وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم. والزعم الكذب. قال شُريح القاضي: إن لكل شيء كُنْية وكُنْيةُ الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع. وروى سعيد بن جبير عن ٱبن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ». قال ابن العربيّ: وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهةً بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرّفت بالجهل فيه من ٱتخاذ الآلهة أعظمُ جهلاً وأكبرُ جُرْماً فإن الإعتداء على الله تعالى أعظمُ من الاعتداء على المخلوقات. والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبْيَنُ وأوضحُ من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام. وقد رُوي أن رجلاً قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثه الرسول عليه السلام. فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يَظهر، وننساه حتى لا يُذكر إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة. وقرأ يحيـى بن وثّاب والسُّلَميّ والأعمش والكسائيّ «بزُعمِهم» بضمه الزاي. والباقون بفتحها، وهما لغتان. { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي إلى المساكين. { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء الحُكْم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى «فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ». فكان تركهم لذكر الله مذموماً منهم وكان داخلاً في ترك أكل ما لم يذكر ٱسمُ الله عليه.