الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }

قوله تعالى: { وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ } نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول. { جَمِيعاً } نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ } نداء مضاف. { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } أي من الاستمتاع بالإنس فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر يدل على ذلك قوله: { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } وهذا يردّ قول من قال: إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس لأن الإنس قبِلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضاً فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذّذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذّذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زَنَوْا وشرِبوا الخمور بإغواءِ الجن إيّاهم. وقيل: كان الرجل إذا مَرّ بوادٍ في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيلوَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً } [الجن: 6]. فهذا استمتاع الإنس بالجنّ. وأما استمتاع الجنّ بالإنس فما كانوا يُلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر. وقيل: استمتاع الجن بالأنس أنهم يعترفون أن الجنّ يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون. ومعنى الآية تقريع الضالين والمضِلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. { وَبَلغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } يعني الموت والقبر، ووافينا نادمين. { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي موضع مقامكم. والمَثْوَى المُقام. { خَـٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } استثناء ليس من الأوّل. قال الزجاج: يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب فالاستثناء منقطع. وقيل: يرجع الاستثناء إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات. وقال ٱبن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان. فـ«ما» على هذا بمعنى مَن. وعنه أيضاً أنه قال: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت، إذْ قد يُسلم. وقيل: «إلاّ ما شاء الله» من كونهم في الدنيا بغير عذاب. ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في «هود». قوله:فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ } [هود:106] وهناك يأتي مستوفًى إنْ شاء الله. { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } أي في عقوبتهم وفي جميع أفعاله { عليم } بمقدار مجازاتهم.