الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ } أي حلفوا. وجَهْدُ اليمين أشدّها، وهو بالله. فقوله: «جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وٱنتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإلٰه الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنًّا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى كما أخبر عنهم بقوله تعالى: «مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى». وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يُسمّونه جَهْد اليَمين إذا كانت اليمين بالله. «جَهْدَ» منصوب على المصدر والعامل فيه «أقسموا» على مذهب سيبويه لأنه في معناه. والجَهْد بفتح الجيم: المشقّة يقال: فعلت ذلك بجَهْد. والجُهْد بضمها: الطاقة يقال: هذا جُهْدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحداً، ويحتج بقوله:وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } [التوبة: 79]. وقرىء «جَهْدهم» بالفتح عن ٱبن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القُرَظِيّ والكَلْبِي وغيرهما، " أن قريشاً قالت: يا محمد، تُخبِرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عَيْناً، وأن عيسى كان يُحيـي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة فآئتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدّقك. فقال: «أيّ شيء تحبّون»؟ قالوا: ٱجعل لنا الصَّفَا ذهباً فَواللَّهِ إن فعلته لنتبعنّك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: «إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولئن أرسل الله آية ولم يصدّقوا عندها ليعذبنّهم فٱتركهم حتى يتوب تائبهم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل يتوب تائبهم» فنزلت هذه الآية " وبيّن الربّ بأن من سبق العلم الأزَليّ بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنَنّ. الثانية: قوله تعالى: { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرِض هنا مسألةٌ من الأحكام عُظْمَى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ٱبن العربيّ: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفةً بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: عليّ أشدّ ما أخذه أحدٌ على أحد فقال مالك: تَطْلُق نساؤه. ثم تكاثرت الصُّوَر حتى آلت بين الناس إلى صورةٍ هذه أمُّها. وكان شيخنا الفِهْرِيّ الطَّرَسُوسِيّ يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكيناً إذا حنِث فيها لأن قوله «الأيمان» جمع يمين، وهو لو قال عليّ يمين وحنِث ألزمناه كفارةً. ولو قال: عليّ يمينان للزمته كفارتان إذا حنِث. والأيمانُ جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القَيْرَوان فيها فقال أبو محمد بن أبي زيد: يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريقُ ثلث ماله، وكفارةُ يمين، وعِتق رقبة.

السابقالتالي
2 3