الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ } «ما» في محل نصب بـ «قَطَعْتُمْ» كأنه قال: أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير ـ وهي البُوَيْرة ـ حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أُحُد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره إمّا لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشقّ ذلك عليهم فقالوا ـ وهم يهود أهل الكتاب ـ: يا محمد، ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض!؟ فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: ٱقطعوا لنغيظهم بذلك. فتزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:
ألَسْنا ورِثنا الكتاب الحكيم   على عهد موسى ولم نَصْدِفِ
وأنتم رِعاءٌ لِشاءٍ عجاف   بسَهْلِ تِهامة والأَخْيَف
تَرَوْن الرعاية مجداً لكم   لدى كلّ دهرٍ لكم مُجْحف
فيأيها الشاهدون أنتهُوا   عن الظلم والمنطق المُؤْنف
لعل الليالي وصَرفَ الدُّهور   يُدِلْنَ من العادل المنصف
بقَتْل النَّضِير وإجلائها   وعَقْرِ النخيل ولم تُقْطفِ
فأجابه حسان بن ثابت:
تفاقد مَعْشَرٌ نصرُوا قريشاً   وليس لهم ببلدتهم نَصيرُ
هُمُو أوتوا الكتاب فضيّعوه   وهم عُمْيٌ عن التوراة بُورُ
كفرتم بالقُرآن وقد أبيتم   بتصديق الذي قال النذير
وهان على سَراة بني لُؤَيٍّ   حريقٌ بالبُوَيْرةِ مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
أدام الله ذلك من صنيع   وحرَّق في نواحيها السَّعِيرُ
ستعلم أيُّنا منها بنُزْهٍ   وتعلم أي أرْضَيْنا تَصير
فلو كان النخيل بها رِكاباً   لقالوا لا مُقام لكم فسِيرُوا
الثانية: كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، وتحصَّنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودسّ عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فاغترُّوا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويُجْلِيهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خَيْبَر أكابرهم كُحَيِّ بن أَخْطَب، وسَلاّم بن أبي الحُقيْق، وكنانة بن الربيع.

السابقالتالي
2 3