الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } * { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

قوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في «البقرة» القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً: قد أقرض كما قال:
وإذا جُوزِيتَ قَرْضاً فَٱجْزِهِ   إِنَّمَا يَجْزِي الفتى ليس الْجَمَلْ
وسمّي قرضاً لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدِله الله بالأضعافِ الكثيرة. قال الكلبي: «قَرْضاً» أي صدقة «حَسَناً» أي محتسباً مِن قلبه بلا مَنٍّ ولا أذىً. { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إلٰه إلا الله والله أكبر رواه سفيان عن ابي حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير والعرب تقول: لي عند فلان قرض صِدقٍ وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسُّمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه لقوله تعالى:وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [البقرة:267] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: " أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا " وأن يخفى صدقته لقوله تعالى:وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة:271] وألاّ يَمُنّ لقوله تعالى:لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة:264] وأن يستحقر كثير ما يعطي لأن الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحبّ أمواله لقوله تعالى:لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران:92] وأن يكون كثيراً لقوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها " { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } وقرأ ابن كثير وابن عامر «فَيُضَعِّفُه» بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة «فَيُضَاعِفهُ» بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصماً نصب الفاء. ورفع الباقون عطفاً على «يُقْرِضُ». وبالنصب جواباً على الاستفهام. وقد مضى في «البقرة» القول في هذا مستوفى: { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني الجنة. قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } العامل في «يَوْمَ» { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وفي الكلام حذف أي «وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» في «يَوْم تَرَى» فيه { ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم } أي يمضي على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي قدّامهم. { وَبِأَيْمَانِهِم } قال الفراء: الباء بمعنى في أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: { نُورُهُم } هداهم { وَبِأَيْمَانِهِم } كتبهم وٱختاره الطبري.

السابقالتالي
2