الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } * { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } * { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } * { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } * { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } * { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } * { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

قوله تعالى: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي مكذبون قاله ٱبن عباس وعطاء وغيرهما. والمُدْهِن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبِّه بالدُّهن في سهوله ظاهره. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مُدْهِنون كافرون نظيره:وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم:9]. وقال المؤرِّج: المدهِن المنافق أو الكافر الذي يُليِن جانبه ليُخْفِي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللِّين، وأن يُسِرَّ خلاف ما يظهر وقال أبو قيس بن الأَسْلَت:
الحَزْمُ والْقُوَّةُ خيرٌ مِنَ   الإدهان والفَهَّةِ والهَاعِ
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غَشَشْتَ. وقال الضحاك: «مُدْهِنُونَ» معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ٱبن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حقّ اللَّهِ عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن. قوله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال ٱبن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزد شنوءة ما رِزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع ٱسم الرزق مكان شكره لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقاً على هذا المعنى. فقيل: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقاً لكم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } بالرزق أي تضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى:وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال:35] أي لم يكونوا يُصلُّون ولكنهم كانوا يصفِّرون ويُصفِّقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباباً، بل ينبغي أن يروه من قِبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكرٍ إن كان نعمة، أو صبرٍ إن كان مكروهاً تعبّداً له وتذلُّلاً. وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» حقيقة. وعن ٱبن عباس أيضاً: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مُطِرنا بنَوْء كذا رواه عليّ بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم " عن ٱبن عباس قال: مُطِر الناسُ على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافرٌ» قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صَدَق نَوْءُ كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } ـ حتى بلَغ ـ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } " وعنه أيضاً: " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أرأيتم إن دعوت الله لكم فسُقِيتم لعلكم تقولون هذا المطر بِنَوْء كذا» فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأَنواء. فصلّى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمُطِروا فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سُقِينا بِنَوْء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } "

السابقالتالي
2 3 4