الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } فيه مسألتان: الأولى: لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعدّ للأبرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. فـ «ـمَقَامَ» مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه وٱطلاعه عليه بيانه قوله تعالى:أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33] وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه. الثانية: هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هَمَّ بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياءً منه. وقال به سفيان الثوريّ وأفتى به. وقال محمد بن عليّ الترمذيّ: جنةٌ لخوفه من ربه، وجنةٌ لتركه شهوته. وقال ٱبن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدّم. ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله:فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [الأعراف:34] وقوله في موضع آخر:إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [نوح:4]. { جَنَّتَانِ } أي لمن خاف جنتان على حدة فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين والأوّل أظهر. وروي عن ٱبن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت " ذكره المهدوي والثعلبي أيضاً من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة فثنى لرؤوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال تسعة عشر لمراعاة رؤوس الآي. وأيضاً قال: { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ }. وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فَتُثَنَّى في الشعر وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: «جَنَّتَانِ» ويصفهما بقوله: «فِيهِمَا» فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا ٱثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خَاصةً حين ذكر ذات يوم الجنة حين أُزْلِفَت والنار حين بُرِّزَت قاله عطاء وٱبن شَوْذَب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمإ فأعجبه، فسأل عنه فأخبر أنه من غير حِلّ فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال: " رحمك الله لقد أنزلت فيك آية " وتلا عليه هذه الآية.