الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } * { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } * { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } * { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } * { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } * { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } * { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } * { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } * { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }

قوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } ذكر جملاً من وقائع الأمم الماضية تأنيساً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزية له. { قَبْلَهُمْ } أي قبل قومك. { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يعني نوحاً. الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت ما معنى قوله: { فَكَذَّبُواْ } بعد قوله: { كَذَّبَتْ }؟ قلت: معناه كذّبوا فكذَّبوا عبدنا أي كذّبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما مضى منهم قَرْن مكذِّب تبعه قَرْن مكذّب، أو كذّبت قوم نوح الرسل فكذّبوا عبدنا أي لما كانوا مكذِّبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً كذّبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل. { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } أي هو مجنون { وَٱزْدُجِرَ } أي زجر عن دعوى النبوة بالسبّ والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال: { وَٱزْدُجِرَ } بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية. { فَدَعَا رَبَّهُ } أي دعا عليهم حينئذ نوح وقال: رَبِّ { أَنِّي مَغْلُوبٌ } أي غلبوني بتمردهم { فَٱنتَصِرْ } أي فانتصر لي. وقيل: إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ } أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء { بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي كثير قاله السدّي. قال الشاعر:
أعينيّ جُودَا بالدُّموعِ الهَوَامرِ   على خيرِ بادٍ من مَعَدٍّ وحاضِرِ
وقيل: إنه المنصبّ المتدفِّق ومنه قول ٱمرىء القيس يصف غيثاً:
رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثم ٱنْتَحَى   فيه شُؤْبُوبُ جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ
الهَمْر الصبّ وقد هَمَر الماءَ والدَّمْعَ يَهْمِرُ هَمْراً. وهَمَر أيضاً إذا أكثر الكلام وأسرع. وهَمَر له من ماله أي أعطاه. قال ٱبن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء مُنْهَمِرٍ من غير سحاب لم يقلع أربعين يوماً. وقرأ ٱبن عامر ويعقوب: «فَفَتَّحْنَا» مشدّدة على التكثير. الباقون «فَفَتَحْنَا» مخفَّفاً. ثم قيل: إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل: إنه المجرَّة وهي شَرَج السماء ومنها فتحت بماء منهمر قاله عليّ رضي الله عنه. { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } قال عُبَيد بن عُمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجّرت بالعيون، وإن عيناً تأخّرت فغضب عليها فجعل ماءها مُرّاً أُجاجاً إلى يوم القيامة. { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } أي ماء السماء وماء الأرض { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر حكاه ٱبن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل: «قُدِرَ» بمعنى قضى عليهم. قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يَغْرَقُوا. وقال محمد بن كعب: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء وتلا هذه الآية. وقال: «الْتَقَى الْمَاءُ» والالتقاء إنما يكون في ٱثنين فصاعداً لأن الماء يكون جمعاً وواحداً. وقيل: لأنهما لما ٱجتمعا صارا ماء واحداً. وقرأ الجحَدْري: «فَالْتَقَى الْمَاءَانِ». وقرأ الحسن: «فَالْتَقَى الْمَاوَانِ» وهما خلاف المرسوم. القُشيري: وفي بعض المصاحف «فَالْتَقَى الْمَاوَانِ» وهي لغة طيّىء. وقيل: كان ماء السماء بارداً مثل الثلج وماء الأرض حاراً مثل الحميم.

السابقالتالي
2 3