الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } * { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } * { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } * { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } * { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } * { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } * { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } * { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }

قوله تعالى: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأوّل مرويّ عن ٱبن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذرّ وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ٱبن عباس أيضاً أنه قال: أتعجبون أن تكون الخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ٱبن عباس أيضاً أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمداً رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في «الأنعام» عند قوله:لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [الأنعام: 103]. وروى محمد بن كعب قال: " قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } " وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته قاله الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: " رأيت نهراً ورأيت وراء النهر حجاباً ورأيت وراء الحجاب نوراً لم أر غير ذلك " وفي صحيح مسلم " عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نورٌ أَنَّى أراه» " المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودلّ على هذا الرواية الأخرى «رأيت نوراً». وقال ٱبن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ٱبن عامر وأهل الشام «مَا كَذَّبَ» بالتشديد أي ما كذَّب قلبُ محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدّقه. فـ «ـما» مفعوله بغير حرف مقدّر لأنه يتعدّى مشدّداً بغير حرف. ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدراً. الباقون مخففاً أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:
لو كنتِ صادقة الذي حدّثتِنِي   لنجوتِ مَنْجَا الحارِثِ بنِ هِشامِ
أي في الذي حدّثتِنِي. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدراً. ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى. قوله تعالى: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } قرأ حمزة والكسائي «أَفَتَمْرُونَهُ» بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. وٱختاره أبو عبيد لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا قال الشاعر:
لِئن هجرت أخا صِدقٍ ومَكْرُمَةٍ   لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكَا
أي جحدته. وقال المبرّد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه.

السابقالتالي
2 3 4 5