الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } * { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } * { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } * { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } * { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }

قوله تعالى: { فَذَكِّرْ } أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } يعني برسالة ربك { بِكَاهِنٍ } تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وَحْي. { وَلاَ مَجْنُونٍ } وهذا ردّ لقولهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم فعقبة بن أبي مُعَيْط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن فأكذبهم الله تعالى وردّ عليهم. ثم قيل: إن معنى «فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ» القسم أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسماً، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل أي قد برأك الله من ذلك. قوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبيّن ولا مشروح يريد سيبويه أن «أَمْ» في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث كما قال:
أَتَهْجُـر غَانيـةً أَمْ تُلِـمْ   
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:
أَمِ الْحَبْـلُ وَاهٍ بهـا مُنْجَـذِمْ   
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر أي يهلك عن قريب كما هلك مَنْ قبلُ من الشعراء، وأن أباه مات شابًّا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيداً وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ٱبن عباس. قال أبو الغَوِل الطُّهوِي:
هُم مَنَعُوا حِمَى الْوَقَبَى بِضَرْبٍ   يُؤَلِّف بين أَشْتَاتِ الْمَنُونِ
أي المنايا يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرّقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدّي عن أبي مالك عن ٱبن عباس: «رَيْبَ» في القرآن شكٌّ إلا مَكاناً واحداً في الطور «رَيْبَ الْمَنُونِ» يعني حوادث الأمور وقال الشاعر:
تَرَبَّصْ بها رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّها   تُطَلَّقُ يوماً أو يَموتُ حَلِيلُها
وقال مجاهد: { رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } حوادث الدهر، والمنون هو الدهر قال أبو ذُؤَيْب:
أَمِنَ الْمَنُونِ ورَيْبِه تَتَوجَّعُ   والدَّهْرُ لَيس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجزَعُ
وقال الأعشى:
أَأَنْ رَأَتْ رجلاً أَعْشَى أَضَرَّ بِهِ   رَيْب المنونِ ودَهرٌ مُتْبِلٌ خَبِل
قال الأصمعي: المنون الليل والنهار وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمُنَّة الحيوان أي قوتِه وكذلك المنِيَّة. أبو عبيدة: قيل للدهر منون لأنه مُضْعِف، من قولهم حَبْلٌ منِين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف.

السابقالتالي
2