الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } * { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } * { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } * { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } يعني الناس، وقيل آدم. { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي ما يختلج في سرّه وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفى بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفيّ. قال الأعشى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاساً إذا ٱنْصَرَفتْ   كما ٱستعان بريح عِشْرِقٌ زجِلُ
وقد مضى في «الأعراف». { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } هو حبل العاتق وهو ممتدّ من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روى معناه عن ٱبن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عِرق معلَّق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل أي ونحن أملك به من حبل وريده مع ٱستيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عِرق يخالط القلب، فعلم الربِّ أقربُ إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعضُ البعضَ ولا يحجب علم الله شيء. قوله تعالى: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملَك يخبر، ولكنهما وكِّلا به إلزاماً للحجة، وتوكيداً للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: { ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } ملَكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا متّ طُوِيت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة:ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] عَدَلَ والله عليك من جعلك حسيبَ نفسك. وقال مجاهد: وكَّل الله بالإنسان مع علمه بأحواله مَلَكين بالليل ومَلَكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاماً للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعلّه يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عَمِلَ حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عَمِل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ".

السابقالتالي
2 3 4