الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

فيه تسع مسائل: الأُولى ـ قال ٱبن عباس والبَرَاء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ ـ ونحو هذا ـ فنزلت الآية. روى البخاريّ عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً ينادي، فقال أبو طلحة: ٱخرج فانظر ما هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي أَلاَ إنّ الخمر قد حُرّمت فقال: ٱذهب فأَهرِقها ـ وكان الخمر من الفَضِيخ ـ قال: فجرت في سِكك المدينة فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } الآية. الثانية ـ هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأُولى فنزلتوَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143]. ومن فعل ما أُبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع وعلى هذا فما كان ينبغي أن يُتخوّف ولا يُسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غَفَل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين تَوهَّم مؤاخذةً ومعاقبةً لأجل شرب الخمر المتقدّم فرفع الله ذلك التوهم بقوله: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } الآية. الثالثة ـ هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خَمْر وهو نصٌّ ولا يجوز الاعتراض عليه لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عَقَلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره وقد قال الحَكَميّ:
لنا خَمرٌ وليست خمر كَرْمٍ   ولكن مِن نِتاجِ الباسِقاتِ
كِرامٌ في السماءِ ذهبن طُولا   وفات ثِمارها أيدِي الجناةِ
ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النَّسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان عن الأعمش عن مُحارِب بن دِثار عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " الزبيب والتمر هو الخمر " وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وحسبك به عالماً باللسان والشرع ـ خطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس أَلاَ إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل. وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه.

السابقالتالي
2 3 4 5