الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

فيه سبع وأربعون مسألة: الأُولى ـ قوله تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } تقدّم معنى اللغو في «البقرة» ومعنى «فِي أَيْمَانِكُمْ» أي من أيمانكم، والأيمان جمع يمين. وقيل: ويَمين فَعِيل من اليُمن وهو البركة سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أَيْمَان وأَيْمُنٌ. قال زهير:
فتُجمَـعُ أيْمـنٌ مِنّـا ومِنكـم   
الثانية ـ واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حَلَفوا على ذلك فلما نزلت { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية. والمعنى على هذا القول إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها ـ أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكَفَّرتم ـ فلا يؤاخذكم الله بذلك وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تُلْغوه أي فلم تُكفِّروا فبان بهذا أن الحَلِف لا يحرّم شيئاً. وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لَغْو، كما أن تحليل الحرام لَغْو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لَغْواً في أنه لا يُحرّم فقال: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } أي بتحريم الحلال. و " رُوي أن عبد الله ابن رَوَاحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك فقال: لا والله لا آكله الليلة فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل وقال أيتامه: ونحن لا نأكل فلما رأى ذلك أَكَل وأَكَلوا. ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: «أطعتَ الرّحمن وعصيتَ الشيطان» " فنزلت الآية. الثالثة ـ الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفّارة فيهما. خرّج الدَّارَقُطْنيّ في سننه، حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدّثنا خلف بن هشام حدّثنا عَبْثَر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن عَلْقَمة عن عبد الله. قال: الأيمان أربعة، يمينان يُكفَّران ويمينان لا يُكفَّران فاليمينان اللذان يُكفَّران فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يُكفَّران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوريّ في «جامعه»، وذكره المَرْوَزِيّ عنه أيضاً، قال سفيان: الأيمان أربعة يمينان يكفَّران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لأفعلنّ ثم لا يفعل، ويمينان لا يُكفَّران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل قال المَرْوَزِيّ: أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقاً يَرَى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفّارة عليه في قول مالك وسفيان الثوريّ وأصحاب الرأي، وكذلك قال أحمد وأبو عبيد وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفّارة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد