الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }. قال عِكْرمة: إنما قال هذا فنْحَاص بن عازُوراء لعنه الله وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قَلّ مالهُم فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأُوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوامَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245] ورأُوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الدّيات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل وهذا معنى قولهم: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } فهو على التمثيل كقوله:وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 29]. ويقال للبخيل: جَعْدُ الأنامل، ومقبوض الكفّ، وكَزُّ الأصابع، ومغلول اليد قال الشاعر:
كانت خُراسان أرضاً إذْ يَزيدُ بها   وكلُّ باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جَعْداً أنامله   كأنّما وجهه بالخلِّ منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى:وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [صۤ: 44] وهذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة تقول العرب: كم يدٌ لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوّة قال الله عز وجلوَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } [صۤ: 17] أي ذا القوّة وتكون للملِك والقدرة قال الله تعالىقُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [آل عمران: 73]. وتكون بمعنى الصلة قال الله تعالى:مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [يسۤ: 71] أي مما عملنا نحن. وقال:أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ } [البقرة: 237] أي الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومنه قوله عليه السلام: " يد الله مع القاضي حتى يقضِي والقاسم حتى يَقسِم " وتكون لإضافة الفعل إلى المخبَر عنه تشريفاً له وتكريماً قال الله تعالى:يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [صۤ: 75] فلا يجوز أن يحمل على الجارحة لأن الباري جلّ وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوّة والمِلك والنعمة والصّلة، لأن الاشتراك يقع حينئذٍ بين وليه آدم وعدوّه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تُحمَل على صفتين تعلّقتا بخلق آدم تشريفاً له دون خلق إبليس تَعلُّق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسَّة ومثله ما روى أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كَتَب التّوراة بيده، وغَرَس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها. قوله تعالى: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } حُذفت الضّمة من الياء لثقلها أي غُلّت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } والمقصود تعليمنا كما قال:

السابقالتالي
2 3