الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } * { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }

قوله تعالى: { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ } قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نَفَر من اليهود ـ فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافِع بن أبي رافع ـ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام فقال: " نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } " فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوّته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا دِيناً شراً من دينكم فنزلت هذه الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دِين من فرق بين أنبياء الله لا دِين من يؤمن بالكل. ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و «تَنْقِمُونَ» معناه تسخطون، وقيل: تكرهون وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب يقال: نَقَم من كذا يَنْقِم ونَقِم يَنْقَم، والأول أكثر قال عبد الله بن قيس الرُّقَيَّاتِ:
ما نَقَمُوا من بني أُمَيَّة إلاَّ   أنهم يَحلُمون إن غَضِبُوا
وفي التنزيلوَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [البروج: 8] ويقال: نَقِمتُ على الرجل بالكسر فأنا ناقِم إذا عتبتَ عليه يقال: ما نَقِمْتُ عَلَيْه الإحسان. قال الكسائي: نَقِمت بالكسر لغة، ونَقَمتُ الأمر أيضاً ونَقِمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النّقمة، والجمع نَقِمات ونَقِم مثل كلمة وكَلِمات وكَلِمِ، وإن شئت سكّنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نِقْمة والجمع نِقَم مثل نِعْمة ونِعم، { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } في موضع نصب بـ «تنقِمون» و «تَنْقِمُونَ» بمعنى تعِيبون، أي هل تنقِمون مِنا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أي في ترككم الإيمان، وخروجكم عن ٱمتثال أمر الله فقيل هو مثل قول القائل: هل تنقم منّى إلا أنّي عفيفٌ وأنّك فاجر. وقيل: أي لأن أكثركم فاسقون تنقِمون منا ذلك. قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ } أي بشرٍّ من نقمكم علينا. وقيل: بشرّ ما تريدون لنا من المكروه وهذا جواب قولهم: ما نعرف ديناً شرّاً من دينكم. { مَثُوبَةً } نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك ومثله مَقُولة ومَجُوزة ومَضُوفة على معنى المصدر كما قال الشاعر:
وكنتُ إذا جارِي دَعَا لِمَضُوفةٍ   أشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي
وقيل: مَفْعُلة كقولك مَكْرُمة وَمَعْقُلة. { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } «مَنْ» في موضع رفع كما قال:بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ ٱلنَّارُ } [الحج: 72] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله والمراد اليهود.

السابقالتالي
2