الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ }

قوله تعالى: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير. قال ابن العربي: وهذه دعوى عريضة فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدّم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأُخرى، وبقي الأمر على حاله. قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول فتكون ناسخة إلا أن يقدّر في الكلام { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } إن شئت لأنه قد تقدّم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حُذف التخيير منه لدلالة الأوّل عليه لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون قوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } معطوفاً على ما قبله من قوله:وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } [المائدة: 42] ومن قوله:فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [المائدة: 42] فمعنى { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي أحكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم فهو كله محكم غير منسوخ لأن الناسخ لا يكون مرتبطاً بالمنسوخ معطوفاً عليه، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه الله. «وَأَنِ ٱحْكُمْ» في موضع نصب عطفاً على الكتاب أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله، أي بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه. { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } «أَنْ» بدل من الهاء والميم في «وَاحْذَرْهُمْ» وهو بدل اشتمال، أو مفعول من أجله أي من أجل أن يفتنوك. وعن ابن إسحاق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صُوريا وكعب بن أسد وابن صَلُوبَا وشَأس بن عديّ وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنه عن دينه فإنما هو بشر فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنّا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك، فٱقِض لنا عليهم حتى نؤمِن بك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدّم، ثم يختلف معناها فقوله تعالى هنا «يَفْتِنُوكَ» معناه يصدّوك ويردّوك وتكون الفتنة بمعنى الشِّرْك ومنه قوله:وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ } [البقرة: 217] وقوله:وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة: 193]. وتكون الفتنة بمعنى العِبرة كقوله:لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الممتحنة: 5] ولاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [يونس: 85] وتكون الفتنة الصدّ عن السبيل كما في هذه الآية. وتكرير { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله. وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال:

السابقالتالي
2