الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }. أي بيان وضياء وتعريف أن محمداً صلى الله عليه وسلم حق. «هُدىً» في موضع رفع بالإبتداء «ونَورٌ» عطف عليه. { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } قيل: المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعُبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهوداً. وقالت النصارى: كانوا نصارى فبين الله عز وجل كذبهم. ومعنى { أَسْلَمُواْ } صدّقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. وقيل: معنى «أَسْلَمُوا» خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بُعِثوا به. وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد. ومعنى { لِلَّذِينَ هَادُواْ } على الذين هادوا فاللام بمعنى «على». وقيل: المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم، فحذف «عليهم». و { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } ههنا نعت فيه معنى المدح مثل { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. «هَادُوا» أي تابوا من الكفر. وقيل: فيه تقديم وتأخير أي إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار أي ويحكم بها الربانيون وهم الذي يَسُوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره عن ٱبن عباس وغيره. وقد تقدّم في آل عمران. وقال أبو رَزِين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء. والحِبْر والحَبْر الرجل العالم وهو مأخوذ من التَّحبير وهو التحسين، فهم يُحبّرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو مُحبَّر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والحِبر والحَبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لأنه يجمع على أفعال دون الفُعول قال الفراء: هو حِبر بالكسر يقال ذلك للعالم. وقال الثوري: سألت الفرّاء لم سُمّي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم حِبر وحَبر فالمعنى مداد حِبر ثم حذف كما قال:وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] أي أهل القرية. قال: فسألت الأصمعي فقال ليس هذا بشيء إنما سمى حبراً لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر أي صفرة أو سواد. وقال أبو العباس: سمى الحِبر الذي يكتب به حِبرا لأنه يحبر به أي يحقق به. وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحِبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضاً الأثر والجمع حُبُور عن يعقوب. { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } أي ٱستودعوا من علمه. والباء متعلقة بـ «الربانيين والأحبار» كأنه قال: والعلماء بما ٱستحفظوا. أو تكون متعلقة بـ «يَحْكم» أي يحكمون بما ٱستحفظوا.

السابقالتالي
2