الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }

فيه مسألتان: الأولى ـ قوله تعالى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } كرره تأكيداً وتفخيماً، وقد تقدّم. الثانية ـ قوله تعالى: { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } على التكثير. والسُّحْت في اللغة أصله الهلاك والشدّة قال الله تعالى:فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61]. وقال الفرزدق:
وعَضُّ زمان يا بنَ مَرْوان لم يَدعْ   من المال إلاّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
كذا الرواية. أو مُجلَّفُ بالرفع عطفاً على المعنى لأن معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: أَسْحَتَ أي ٱسْتٱصلَ. وسُمي المال الحرام سُحْتا لأنه يَسْحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها وقال الفرّاء: أصله كَلَب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكُول فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشَّرَه إلى ما يُعطَى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النَّهَم. وقيل: سُمي الحرام سُحْتا لأنه يَسحَت مروءة الإنسان. قلت: والقول الأوّل أولى لأن بذهاب الدّين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السُّحت الرُّشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السّحت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «كلّ لحم نبت بالسّحت فالنار أولى به» قالوا: يا رسول الله وما السحت؟ قال: «الرشوة في الحكم» " وعن ابن مسعود أيضاً أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: من السّحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السّلف أَنّ أَخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سُحْت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا ٱرتشى الحاكم ٱنعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك. قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: " لعن الله الرّاشي والمرتشي " وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السّحت الرّشوة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: لا إنما يكره من الرّشوة أن تُرشى لتُعطَى ما ليس لك، أو تدفع حقاً قد لزمك فأما أن ترشى لتدفع عن دِينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السَّمَرْقَنْدي الفقيه: وبهذا نأخذ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روى عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فَرَشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتاً فمعناه أنه يَسحَت مروءة آخذه.

السابقالتالي
2 3 4