الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }

فيه خمس مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ } قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ٱبن آدم هذا أوّل من قُتِل. وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طُعْمِه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه لأنه من عادة الغراب فعل ذلك فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه. ورُوي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة قاله مجاهد. وروى ٱبن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة وقاله ٱبن عباس. وقيل: حتى أَرْوَح ولا يدري ما يصنع به إلى أن ٱقتدى بالغراب كما تقدّم. وفي الخبر عن أنس قال سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " ٱمتن الله على ٱبن آدم بثلاث بعد ثلاث بالرّيح بعد الرُّوح فلولا أن الرّيح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميماً وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيراً لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يملّ نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له " وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافاً به، فبعث الله غراباً يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك: { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } حيث رأى إكرام الله هابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفياً شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه فقال ٱبن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحوّاء أتيا قبره وبكيا أياماً عليه. ثم إن قابيل كان على ذِروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرّقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض. ويقال: إن قابيل ٱستوحش بعد قتل هابيل ولزم البريّة، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقَذَه حتى يموت ثم يأكله. قال ٱبن عباس: فكانت الموقوذة حراماً من لدن قابيل بن آدم، وهو أوّل من يساق من الآدميين إلى النار وذلك قوله تعالى:رَبَّنَآ أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } [فصلت: 29] الآية فإبليس رأس الكافرين من الجنّ، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس على ما يأتي بيانه في «حم فصلت» إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم. وظاهر الآية أن هابيل هو أوّل ميت من بني آدم ولذلك جُهِلت سُنّة المواراة وكذلك حكى الطبريّ عن ٱبن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل.

السابقالتالي
2 3