الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قال ٱبن عباس: خوّف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحِبّاؤه فنزلت الآية. قال ٱبن إسحاق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبَحْرِيّ بن عَمرو وشَأسُ بن عَدِيّ فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذّرهم نقمته فقالوا: ما تُخوفنا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحِباؤه، كقول النصارى فأنزل الله عز وجل فيهم { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } إلى آخر الآية قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عُبَادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود ٱتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حُرَيْملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً من بعده فأنزل الله عز وجل: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ» إلى قوله «وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». السُّدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بِكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى «أذهبُ إلى أبي وأبيكم». وقيل المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة فإنهم رأُوا لأنفسهم فضلاً فردّ عليهم قولهم فقال: { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين إما أن يقولوا هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذاً أبناءه وأحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرّون بعذابه فذلك دليل على كذبكم ـ وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف ـ أو يقولوا: لا يعذّبنا فيكذّبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم. وقيل: معنى { يُعَذِّبُكُم } عَذَّبكم فهو بمعنى المُضِيّ أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نُعذَّب غداً، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } أي لمن تاب من اليهود. { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } من مات عليها. { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فلا شريك له يعارضه. { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي يئول أمر العباد إليه في الآخرة.