قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ }. ٱختلف في وقت هذه المقالة فقال قَتَادة وابن جُرَيْج وأكثر المفسرين: إنما يقول له هذا يوم القيامة. وقال السّدي وقُطْرُب. قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت وٱحتجوا بقوله:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [المائدة: 118] فإنّ «إذْ» في كلام العرب لما مضى. والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله:{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109] ـ الآية ـ وما بعده{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]. وعلى هذا تكون«إذ» بمعنى «إذا» كقوله تعالى:{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ } [سبأ: 51] أي إذا فَزِعوا. وقال أبو النجم:
ثم جزاه الله عنِّي إذ جَزَى
جنّاتِ عَدْنٍ في السّموات العُلاَ
يعني إذا جزى. وقال الأسود بن جعفر الأزدي:
فالآن إذْ هازَلْتُهُنّ فإنّما
يَقُلْنَ أَلاَ لَمْ يذهبِ الشَّيخ مَذهباً
يعني إذا هازلتهنّ، فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره، وظهور برهانه، كأنه قد وقع. وفي التنزيل{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 50] ومثله كثير وقد تقدم. وٱختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال ـ وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام ـ على قولين: أحدهما ـ أنه سأله عن ذلك توبيخاً لمن ٱدعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب، وأشد في التوبيخ والتقريع. الثاني ـ قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غَيَّروا بعده، وٱدَّعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهاً فكيف قال ذلك فيهم؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. قوله تعالى: { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } خرّج الترمذي عن أبي هُريرة قال: تَلَقَّى عيسى حجَّته وَلقَّاهْ الَّلَهُ في قوله: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } قال أبو هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " «فَلَقّاه الله» { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } الآية كلها " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين أحدهما ـ تنزيهاً له عما أضيف إليه. الثاني ـ خضوعاً لعزته، وخوفاً من سَطْوته. ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أخذته الرّعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال: { سُبْحَانَكَ } ثم قال: { مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود.