الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله تعالى: { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون، قال الله تعالى: { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ }. واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فالذي عليه الجمهور ـ وهو الحق ـ نزولها، لقوله تعالى: { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ }. وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مَثَل ضَرَبه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه. وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم: { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } ـ الآية ـ استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا، قاله الحسن. وهذا القول والذي قبله خطأ، والصواب أنها نزلت. قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: «صُوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم» فصاموا ثلاثين يوماً وقالوا: يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا، وإنا صُمْنا وجعنا فادع الله أن ينزّل علينا مائدة من السماء، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وذكر أبو عبدالله محمد بن عليّ الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» له: حدّثنا عمر بن أبي عمر قال حدّثنا عمّار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظليّ عن عليّ بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهديّ عن سلمان الفارسيّ قال: لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ المائدة قام فوضع ثياب الصوف، ولبس ثياب المسوح ـ وهو سربال من مسوح أسود ولِحَاف أسود ـ فقام فألزق القدم بالقدم، وألصق العقب بالعقب، والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم طأطأ رأسه، خاشعاً لله، ثم أرسل عينيه يبكي حتى جرى الدمع على لحيته، وجعل يقطر على صدره ثم قال: { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } الآية، فنزلت سفرة حمراء مدوّرة بين غمامتين، غمامة من فوقها وغَمامة من تحتها، والناس ينظرون إليها، فقال عيسى: «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطي» فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطّى، فخرَّ عيسى ساجداً والحواريون معه، وهم يجدون لها رائحة طيبة لم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك، فقال عيسى: «أيكم أعبد لله وأجرأُ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها» فقال الحواريون: يا روح الله أنت أحقُّ بذلك، فقام عيسى ـ صلوات الله عليه - فتوضأ وضوءاً حسناً، وصلّى صلاة جديدة، ودعا دعاء كثيراً، ثم جلس إلى السفرة، فكشف عنها، فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدّسم، وقد نُضّد حولها من كل البقول ما عدا الكراث، وعند رأسها ملح وخَلّ، وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمّانات، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر زيتون.

السابقالتالي
2 3 4