الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

فيه سبع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ }. جعل هنا بمعنى سَمَى، كما قال تعالى:إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الزخرف: 3] أي سميّناه. والمعنى في هذه الآية ما سَمَى الله، ولا سَنّ ذلك حكماً، ولا تَعبّد به شرعاً، بَيْد أنه قَضَى به علماً، وأوجده بقدرته وإرادته خَلْقاً فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضرّ، وطاعة ومعصية. الثانية ـ قوله تعالى: { مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ } «مِن» زائدة. والبحيرة فعِيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النَّطِيحة والذَّبيحة. وفي الصحيح عن سعيد بن المسيّب: البحِيرة هي التي يمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يَحتلبها أحدٌ من الناس. وأما السّائبة فهي التي كانوا يُسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحِيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن يقال: بحَرتُ أذن الناقة أي شققتها شقاً واسعاً، والناقة بَحِيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة هي التي خُلّيت بلا راع، ويقال للناقة الغَزِيرة بَحِيرة. قال ابن إسحاق: البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهنّ ذَكر، لم يُركَب ظهرها ولم يُجزَّ وبرها، ولم يَشرب لبنها إلا ضيفٌ، فما نُتِجت بعد ذلك من أنثى شُقّت أذنها، وخُلّي سبيلها مع أُمها، فلم يُركَب ظهرُها ولم يجزَّ وبرها ولم يشرب لبنُها إلا ضيف كما فُعِل بأمّها فهي البحيرة أبنة السّائبة. وقال الشافعي: إذا نُتِجت الناقة خمسة أبطن إناثاً بُحرت أذنها فحرمت قال:
محرّمة لا يَطعم الناس لحمها   ولا نحن في شيء كذاك البحائر
وقال ابن عُزيز: البحيرة الناقة إذا نُتِجَت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها ـ أي شقوه ـ وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها ـ وقاله عِكْرمة ـ فإذا ماتت حلّت للنساء. والسائبة البعير يُسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله من مرض، أو بلّغه منزلة أن يفعل ذلك، فلا تُحبَس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد وقال به أبو عبيد: قال الشاعر:
وسائبة للَّه تَنْمِي تشكُّراً   إن الِّلَهُ عافى عامراً أو مُجاشَعاً
وقد يُسيّبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه وَلاء، وقيل: السّائبة هي المخلاّة لا قيد عليها، ولا راعي لها فاعل بمعنى مفعول، نحو «عيشة راضية» أي مرضية. من سابت الحيةُ وانسابت قال الشاعر:
عقرتم ناقة كانت لرّبي   وسائبةً فقوموا للعِقاب
وأما الوصيلة والحام فقال ابن وهب قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يُسيّبونها فأمّا الحام فمن الإبل كان الفحل إذا انقضى ضِرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه وأما الوصِيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثٰى سيّبوها.

السابقالتالي
2 3 4 5