الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

فيه سبع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } قال علقمة: كل ما في القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فهو مدنيّ و «يَا أَيُّها النَّاسُ» فهو مكيّ وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدّم. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأوّل ـ الأمر بالوفاء بالعقود الثاني ـ تحليل بهيمة الأنعام الثالث ـ استثناء ما يلي بعد ذلك الرابع ـ استثناء حال الإحرام فيما يصاد الخامس ـ ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرِم. وحكى النقاش أن أصحاب الكِندِيّ قالوا له: أيها الحكيم ٱعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم! أعمل مثل بعضه فٱحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة «المائدة» فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عامّا، ثم ٱستثنى ٱستثناء بعد ٱستثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد. الثانية ـ قوله تعالى: { أَوْفُواْ } يقال: وَفَى وأوفى لغتان! قال الله تعالى:وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } [التوبة: 111] وقال تعالى:وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [النجم: 37] وقال الشاعر:
أَمّا ٱبنْ طَوْق فقد أَوْفَى بِذِمّتِهِ   كما وَفَى بِقِلاصِ النّجْمِ حَـادِيها
فجمع بين اللغتين. { بِٱلْعُقُودِ } العقود الرّبوط، واحدها عَقْد يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام قال الحطيئة:
قَوْمٌ إذا عقدوا عقداً لجارِهُم   شَدّوا العِنَاجَ وشَدّوا فوقَه الكَرَبا
فأمَر الله سبحانه بالوفاء بالعقود قال الحسن: يعني بذلك عقود الدَّيْن وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكِراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأُمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة وكذلك ما عقده على نفسه لِلّه من الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعاتِ مِلّة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأُمة قاله ٱبن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب لقوله تعالى:وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]. قال ٱبن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت. وقيل: هي عامّة وهو الصحيح فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب لأنّ بينهم وبين الله عقداً في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم مأمورون بذلك في قوله: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } وغير موضع. قال ٱبن عباس: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } معناه بما أحل وبما حرّم وبما فرض وبما حدّ في جميع الأشياء وكذلك قال مجاهد وغيره.

السابقالتالي
2 3 4