الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

نزلت في أعراب من بني أسد بن خُزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جَدْبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السرّ. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنُّون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلت في أعراب أرادوا أن يَتَسمَّوْا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مُزَيْنَة وجُهَيْنة وأسْلَم وغِفارَ والدِّيل وأشجع قالوا آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى. ومعنى «وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا» أي استسلمنا خوف القتل والسّبْي، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر، وذلك يَحْقِن الدّم. { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني إن تخلصوا الإيمان { لاَ يَلِتْكُمْ } أي لا ينقصكم. { مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } لأنه يَلِيته ويلوته: نقصه. وقرأ أبو عمرو «لا يألِتكم» بالهمزة، من أَلَت يَأْلت أَلْتاً وهو اختيار أبي حاتم اعتباراً بقوله تعالى:وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [الطور:1 2] قال الشاعر:
أبلِغْ بني ثُعَلٍ عني مُغَلْغَلَةً   جَهْد الرِّسَالة لا أَلْتاً ولا كَذِبَا
واختار الأولى أبو عبيد. قال رؤبة:
وليلةٍ ذاتِ نَدًى سَرَيْتُ   ولم يَلِتْنِي عن سُرَاها لَيْتُ
أي لم يمنعني عن سُراها مانع وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفْعَل بمعنًى. ويقال أيضاً: ما ألاته من عمله شيئاً أي ما نقصه مثل ألته قاله الفرّاء. وأنشد:
ويأكلن ما أعْنَى الوَلِيُّ فلم يَلِتْ   كأن بحافات النِّهاء المَزَارعا
قوله: فلم «يَلِتْ» أي لم ينقص منه شيئاً. و «أَعْنَى» بمعنى أنبت يقال: ما أَعْنَت الأرض شَيئاً أي ما أنبتت. و «الولِيّ» المطر بعد الوَسْمِيّ سُمِّي ولِيًّا لأنه يلِي الوسمِيّ. ولم يقل: لا يألتاكم لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول.