الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } فيه أربع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } قيل عند الله. وقيل «خَيْراً مِنْهُمْ» أي معتقَداً وأسلم باطناً. والسُّخْرِية الاْستهزاء. سَخِرت منه أسْخَر سَخَراً بالتحريك ومَسْخَراً وسُخْراً بالضم. وحكى أبو زيد سَخِرت به وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سَخِرْت منه وسَخِرت به، وضَحِكت منه وضَحكت به، وهَزِئت منه وهزِئت به كلٌّ يقال. والاْسم السُّخْرِية والسُّخْرِي وقرىء بهما قوله تعالى:لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [الزخرف:2 3] وقد تقدّم. وفلان سُخْرَة يُتَسَخَّر في العمل. يقال: خادم سُخْرة. ورجل سُخْرة أيضاً يُسخر منه. وسُخَرة بفتح الخاء يسخر من الناس. الثانية ـ وٱختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وَقْر فإذا سبقوه إلى مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما ٱنصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه فَرَبَض كل رجل منهم بمجلسه، وعَضُّوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يَظَل الرجل لا يجد مجلساً فيظل قائماً فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول: تفسّحوا تفسّحوا ففسحوا له حتى انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدتَ مجلساً فٱجلسٰ فجلس ثابت من خلفه مُغْضَباً، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان فقال ثابت: ابن فلانةٰ يعيّره بها يعني أُمًّا له في الجاهلية فاستحيا الرجل فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أوّل «السورة» ٱستهزءوا بفقراء الصحابة مثل عَمّار وخبّاب وابن فُهيرة وبِلال وصُهيب وسلمان وسالم مَوْلى أبي حُذيفة وغيرِهم لما رأوا من رثاثة حالهم فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عِكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلماً وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجترىء أحد على الاْستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رَثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لَبِيق في محادثته فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله.

السابقالتالي
2 3 4 5