الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } * { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }

قوله تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبِية، وهذا خبر الحديبية على ٱختصار: وذلك " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام مُنْصَرَفه من غَزْوة بني المُصْطَلِق في شوّال، وخرج في ذي القعدة مُعْتَمِراً، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن ٱتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الْهَدْيَ، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناسُ أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشاً خرج جمْعُهم صادّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدّموا خالد بن الوليد في خيل إلى «كُرَاع الغَمِيم» فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو «بعُسْفان» وكان المخبر له بشر بن سفيان الكَعْبِي، فسلك طريقاً يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيلَ قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تُعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلأت! خلأت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما خَلأَتْ وما هو لها بخُلُق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطّة يسألوني فيها صلة رَحِم إلا أعطيتهم إياها». ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهماً من كِنَانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قَلِيب من تلك القُلُب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرَّواء حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسّهم في القليب ناجية بن جُنْدب بن عمير الأسلمي وهو سائق بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل: نزل بالسّهم في القَليب البَراء بن عازب، ثم جرت السُّفَراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سُهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامَه ذلك، فإذا كان من قابل أتى مُعْتَمِراً ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قُرَبها فيقيم بها ثلاثاً ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضاً، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً من رجل أو امرأة رُدّ إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدًّا لم يردوه إلى المسلمين فعظُم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علّمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجاً، فقال لأصحابه:«اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سبباً إلى ظهور دينه» فأنِس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأَبَى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريدٰ فلا بد أن تكتب: بٱسمك اللهم. فقال لعليّ وكان يكتب صحيفة الصلح: «امح يا عليّ، واكتب بٱسمك اللهم» فأبى عليّ أن يمحو بيده «محمد رسول الله». فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ٱعرضه عليّ» فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن يكتب «من محمد بن عبد الله» "

السابقالتالي
2 3 4