الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }

فيه أربع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } لما ميّز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذِمّة ذكره الماورِدي. وٱختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه «فَضَرْبَ الرِّقَابِ» مصدر. قال الزجاج: أي فٱضربوا الرقاب ضرباً. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبراً. وقيل: التقدير ٱقصدوا ضرب الرقاب. وقال: «فَضَرْبَ الرِّقَابِ» ولم يقل فٱقتلوهم لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغِلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعُلوّه وأوْجَهُ أعضائه. الثانية ـ قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي أكثرتم القتل. وقد مضى في «الأنفال» عند قوله تعالى: «حَتَّى يُثْخِنَ فِي اْلأَرْضِ». { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي إذا أسرتموهم. والوثاق ٱسم من الإيثاق، وقد يكون مصدراً يقال: أوثقته إيثاقاً ووثاقاً. وأما الوِثاق بالكسر فهو ٱسم الشيء الذي يوثق به كالرباط قاله القشيري. وقال الجوهرِيّ: وأوثقه في الوثاق أي شدّه، وقال تعالى: «فَشُدُّوا الْوَثَاقَ». والوِثاق بكسر الواو لغة فيه. وإنما أمر بشدّ الوثاق لئلا يفلِتوا. { فَإِمَّا مَنًّا } عليهم بالإطلاق من غيرِ فِدْية { وَإِمَّا فِدَآءً }. ولم يذكر القتل هاهنا ٱكتفاء بما تقدّم من القتل في صدر الكلام، و «مَنًّا» و «فِدَاءً» نصب بإضمار فعل. وقرىء «فَدًى» بالقصر مع فتح الفاء أي فإما أن تمنُّوا عليهم مَنًّا، وإما أن تفادوهم فِداءً. روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج حين أتِيَ بالأسرى من أصحاب عبد الرحمٰن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل مِن كِنْدة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا! قال: ولمَ ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } في حق الذين كفروا فوالله! ما مَنَنْتَ ولا فَدَيْتَ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم   إذا أثقل الأعناقَ حِملُ المغارم
فقال الحجاج: أفٍّ لهذه الجِيَف! أمَا كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلامٰ؟ خَلُّوا سبيل من بقي. فَخُلِّيَ يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل. الثالثة ـ واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: الأوّل ـ أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يُمَنّ عليهم.

السابقالتالي
2 3 4