الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { فَلاَ تَهِنُواْ } أي تضعفوا عن القتال. والوهْن: الضعف. وقد وَهَن الإنسانُ وَوَهَنَهُ غيره، يتعدّى ولا يتعدّى. قال:
إنني لست بموهونٍ فَقِرْ   
ووهِن أيضاً بالكسر وَهْناً أي ضعف، وقرىء «فما وهُنُوا» بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في آل عمران. الثانية ـ قوله تعالى: { وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } أي الصلح. { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. الثالثة ـ واختلف العلماء في حكمها فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى:وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } [الأنفال: 61] لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل: منسوخة بقوله تعالى:وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } [الأنفال: 16]. وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل: إن قوله: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. { وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } أي بالنصر والمعونة مثل:وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69]: { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي لن ينقصكم عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه تقول منه: وَتَره يَتِره وَتْراً وَتِرَةً. ومنه قوله عليه السلام: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتَرَ أهله وماله " أي ذهب بهما. وكذلك وَتَرَهُ حقّه أي نقصه. وقوله تعالى: { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي لن ينتقصكم في أعمالكم كما تقول: دخلت البيت وأنت تريد في البيت قاله الجوهريّ. الفرّاء: «وَلَنْ يَتِرَكُمْ» هو مشتق من الوتر وهو الفرد فكان المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب.