الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ } * { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ }

قوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي المؤمنون المخلصون. { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } ٱشتياقاً للوَحْي وحرصاً على الجهاد وثوابه. ومعنى «لَوْلاَ» هلا. { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي مُحْكمة، وهي أشدّ القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبد الله «فَإذَا أنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ» أي محدثة النزول. { وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ } أي فرض فيها الجهاد. وقرىء «فَإذَا أنْزِلَتْ سُورَةٌ وذَكَر فِيهَا الْقِتَالَ» على البناء للفاعل ونصب القتال. { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي شك ونفاق. { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره عند الموت وذلك لجبنهم عن القتال جزعاً وهلعاً، ولميلهم في السر إلى الكفار. قوله تعالى: { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } «فَأَوْلَى لَهُمْ» قال الجوهريّ: وقولهم: أَوْلَى لَكَ، تهديد ووعيد. قال الشاعر:
فأوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى   وهل لِلدَّرِّ يُحْلَبُ من مَرَدِّ
قال الأصمعي: معناه قارَبَه ما يُهْلكه أي نزل به. وأنشد:
فعادَى بين هادِيَتَيْن منها   وأوْلَى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في «أَوْلَى» أحسن مما قال الأصمعي. وقال المُبَرِّد: يقال لمن هَمّ بالعَطَب ثم أفْلَت: أوْلى لك أي قاربت العطب. كما رُوِي أن أعرابيًّا كان يوالي رَمْيَ الصيد فيُفْلِت منه فيقول: أوْلى لك. ثم رمى صيداً فَقاربه ثم أفلت منه فقال:
فلو كان أوْلَى يُطعِم القومَ صِدْتُهم   ولكنّ أوْلَى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعَا
وقيل: هو كقول الرجل لصاحبه: يا محروم، أيّ شيء فاتك! وقال الجُرْجَانِيّ: هو مأخوذ من الويل فهو أفعل، ولكن فيه قلب وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله: { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ }. قال قتادة: كأنه قال العقاب أوْلَى لهم. وقيل: أي وَلِيَهم المكروه. ثم قال: «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل: إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف فحذف المبتدأ فيوقف على «فَأَوْلَى لَهُمْ». وكذا من قدّر يقولون مِنَّا طاعة. وقيل: إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله: «لَهُمْ» بمعنى الباء أي الطاعة أولى وأليق بهم، وأحق لهم من ترك ٱمتثال أمر الله. وهي قراءة أُبَيّ «يَقُولُونَ طَاعَةٌ». وقيل إن: «طَاعَةٌ» نعت لـ «سورة» على تقدير: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، فلا يوقف على هذا على «فَأَوْلَى لَهُمْ». قال ابن عباس: إن قولهم «طَاعَةٌ» إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف، قيل: وجوب الفرائض عليهم، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على «فَأَوْلَى». قوله تعالى: { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } أي جدّ القتال، أو وجب فرض القتال، كرهوه. فكرهوه جواب «إذا» وهو محذوف. وقيل: المعنى فإذا عزم أصحاب الأمر. { فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ } أي في الإيمان والجهاد. { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من المعصية والمخالفة.