الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

قوله تعالى: { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي أوّل من أرسل، قد كان قبلي رسل عن ابن عباس وغيره. والبِدْعُ: الأوّل. وقرأ عكرمة وغيره «بِدَعاً» بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف والمعنى: ما كنت صاحب بدَع. وقيل: بِدْع وبديع بمعنًى مثلُ نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشيء بِدْع بالكسر أي مبتدَع. وفلان بِدْعٌ في هذا الأمر أي بديع. وقوم أبداع عن الأخفش. وأنشد قُطْرُب قولَ عديّ بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري   رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد
{ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يُفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ٱبتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فنزلت:لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، لقد بيّن الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت:لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الفتح: 5] الآية. ونزلت:وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً } [الأحزاب:47]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأةٌ من الأنصار: ٱقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مَظْعُون بن حُذافة بن جُمَح، فأنزلناه أبياتنا فَتُوفِّيَ، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! إن الله أكرمك. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك أن الله أكرمه " ؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ٰ قال: " أمّا هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيراً فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قالت: فوالله لا أزكّي بعده أحداً أبداً. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غَزْوَة الحُدَيْبِيَةِ قبل موته بأربع سنين. قلت: حديثُ أمِّ العلاء خرّجه البخاري، وروايتي فيه: «وما أدري ما يُفعل به» ليس فيه «بي ولا بكم» وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست بمنسوخة لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أوّل السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم فوجب أن يكون هذا أيضاً خطاباً للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للمشركين: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» في الآخرة ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أوّل مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلّد في النار، ومن مات على الإيمان وٱتبعه وأطاعه فهو في الجنة فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة.

السابقالتالي
2 3