الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ }

قوله تعالى: { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } فيه وجهان: أحدهما ـ لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني ـ لتصرفنا عن آلِهتنا بالمنع قاله الضحاك. قال عُرْوة بن أُذَيْنة:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ   فُوكاً ففي آخرين قد أفِكوا
يقول: إن لم توفَّق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا. { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أنك نبيّ { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ } بوقت مجيء العذاب. { عِندَ ٱللَّهِ } لا عندي { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } عن ربكم. { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } في سؤالكم ٱستعجال العذاب. { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } قال المبرد: الضمير في «رَأَوْهُ» يعود إلى غير مذكور وبيّنه قولُه: «عَارِضاً» فالضمير يعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضاً. فـ «ـعارضاً» نصب على التكرير سُمِّي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } فلما رأوه حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» ٱستبشروا. وكان قد جاءهم من وادٍ جرت العادة أن ما جاء منه يكون غَيْثاً قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق ومنه قوله تعالى: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي ممطر لنا لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها. قال جرير:
يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يطلبكم   لاقى مباعدةً منكم وحِرْمَانَا
ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رُبَّ صائمة لن تصومه، وقائمة لن تقومه فجعله نعتاً للنكرة وأضافه إلى المعرفة. قلت: قوله: «لا يجوز أن يكون صفة لعارض» خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الاْنفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية لأنها لم تفد الأوّل تعريفاً، بل الاْسم نكرة على حاله فلذلك جرى نعتاً على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و «رُبّ» لا تدخل إلا على النكرة. { بَلْ هُوَ } أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ «قال هود بل هو» وقرىء «قُلْ بَلْ مَا ٱسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيحٌ» أي قال الله: قل بل هو ما ٱستعجلتم به يعني قولهم: «فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا» ثم بين ما هو فقال: { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظَّعِينة فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أوّل ما رأوا العارض قاموا فمدّوا أيديهم، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، ولهم أنين ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر فهي التي قال الله تعالى فيها: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها.

السابقالتالي
2 3