الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

فيه سبع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } بيّن ٱختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه ٱتصال الكلام بعضه ببعض قاله القشيريّ. الثانية ـ قوله تعالى: «حُسْناً» قراءة العامة «حُسْناً» وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون «إحْسَاناً» وحجتهم قوله تعالى في سورة الأنعام وبني إسرائيل:وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء:3 2] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت:وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيها. والحُسْن خلاف القُبْح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت. الثالثة ـ قوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. وٱختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة:كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216] لأن ذلك ٱسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون «كُرْهاً» بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضُّعْف والضَّعْف والشُّهْد والشَّهْد قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائيّ أيضاً والفرّاء في الفرق بينهما: إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره أي قهراً وغضباً ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرهاً بفتح الكاف لحن. الرابعة ـ قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً. وروي أن عثمان قد أتِي بٱمرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحدّ فقال له عليّ رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقال تعالى:وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهراً والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها. وقد مضى في «البقرة». وقيل: لم يعدّ ثلاثة أشهر في ٱبتداء الحمل لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى:فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } [الأعراف: 189]. والفِصال الفطام. وقد تقدّم في «لقمان» الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما «وفَصْله» بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهراً، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهراً. وفي الكلام إضمار أي ومدّة حمله ومدّة فصاله ثلاثون شهراً ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغيّر المعنى.

السابقالتالي
2 3