الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } * { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }

قوله تعالى: { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً } أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل: «لِبُيُوتِهِمْ» بدل اشتمال من قوله: { لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ }. «أَبْوَاباً» أي من فضة. { وَسُرُراً } كذلك وهو جمع السرير. وقيل: جمع الأسِرَّة، والأسِرّة جمع السرير فيكون جمع الجمع. { عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } الاتكاء والتَّوَكُّؤ: التحامل على الشيء ومنه:أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [طه: 18]. ورجل تُكَأَة مثال هُمَزَة كثير الاتكاء. والتُّـكَأة أيضاً: ما يُتَّـكأ عليه. وٱتكأ على الشيء فهو متَّـكِىء والموضع متَّـكأ. وطعنه حتى أتكأه على أَفْعَلَه أي ألقاه على هيئة المُتَّـكِىء. وتوكأت على العصا. وأصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فُعل بٱتزن وٱتّعد. { وَزُخْرُفاً } الزخرف هنا الذهب عن ٱبن عباس وغيره. نظيره:أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } [الإسراء:93] وقد تقدّم. وقال ٱبن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن: النقوش وأصله الزينة. يقال: زخرفت الدار أي زينتها. وتزخرف فلان أي تزين. وانتصب «زُخْرُفاً» على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً. وقيل: بنزع الخافض والمعنى فجعلنا لهم سُقُفاً وأبواباً وسرراً من فضة ومن ذهب فلما حذف «مِن» قال: «وزخرفاً» فنصب. { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ٱبن عامر «وإنّ كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا» بالتشديد. الباقون بالتخفيف وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من «لَمَّا» فـ «ـما» عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف والتقدير: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، وحذفُ الضمير هاهنا كحذفه في قراءة من قرأمَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة: 26] وتَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } [الأنعام: 154]. أبو الفتح: ينبغي أن يكون «كُلُّ» على هذه القراءة منصوبة لأنّ «إنْ» مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين «إن» النافية التي بمعنى ما نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة. { وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } يريد الجنة لمن ٱتقى وخاف. وقال كعب: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يَحْزَن عبدي المؤمن لكلّلت رأس عبدي الكافر بالإكليل، ولا يتصدّع ولا ينبِض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. وأنشدوا:
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن   إذاً لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامةً   وقد شَبِعت فيها بطون البهائم
وقال آخر:
تمتّع من الأيام إن كنت حازما   فإنك فيها بين ناهٍ وآمِر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينَه   فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة   ولا وزن رَقّ من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثواباً لمحسن   ولا رضي الدنيا عقاباً لكافر