الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } * { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } * { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }

فيه خمس مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ } أي واللّهُ الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: أي الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى قاله ابن عيسى. وقيل: أراد أزواج النبات كما قال تعالى:وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [قۤ: 7] ومِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [الشعراء: 7]. وقيل ما يتقلّب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم. قلت: وهذا القول يعم الأقوال كلها ويجمعها بعمومه. { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ } السفن { وَٱلأَنْعَامِ } الإبل { مَا تَرْكَبُونَ } في البر والبحر. { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } ذكر الكناية لأنه ردّه إلى ما في قوله: «ما تَرْكَبُونَ» قاله أبو عبيد. وقال الفرّاء: أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس. الثانية ـ قال سعيد بن جبير: الأنعام هنا الإبل والبقر. وقال أبو معاذ: الإبل وحدها وهو الصحيح لقوله عليه السلام: " «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لَمْ أخلق لهذا إنما خلقت للحرث فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» " وما هما في القوم. وقد مضى هذا في أوّل سورة «النحل» مستوفى والحمد لله. الثالثة ـ قوله تعالى: { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا، ولأن الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكَرهما جميعاً في أوّل الآية وعطف آخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهراً لأنه ٱنكشف للظاهرين وظهر للمبصرين. الرابعة ـ قوله تعالى: { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } أي ركبتم عليه وذِكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر. { وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا } أي ذلّل لنا هذا المركب. وفي قراءة عليّ بن أبي طالب «سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذَا». { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مطيقين في قول ٱبن عباس والكلبي. وقال الأخفش وأبو عبيدة: «مُقْرِنِينَ» ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيد والقوّة من قولهم: هو قِرن فلان إذا كان مثله في القوّة. ويقال: فلان مُقْرِن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوِي عليه كأنه صار له قِرْناً. قال الله تعالى: { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مطيقين. وأنشد قُطْرُب قول عمرو بن مَعْدِيَكرِب:
لقد علم القبائل ما عُقيلٌ   لنا في النائبات بمقرنينا
وقال آخر:
ركبتم صَعْبَتي أشَراً وَحَيْفاً   ولستم للصّعاب بمقرنينا
والمُقْرِن أيضاً: الذي غلبته ضَيعته يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقِي إبله ولا ذائد له يذودها.

السابقالتالي
2 3