الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } * { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } * { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }

فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ } أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بَغَوْا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم وذلك قوله في سورة الحج:أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ } [الحج: 39 - 40] الآيات كلها. وقيل: هو عام في بَغْي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود. قال ٱبن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح فاحتمل أن يكون أحدهما رافعاً للآخر، وٱحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالتين إحداهما أن يكون الباغي معلناً بالفجور، وقِحاً في الجمهور، مؤذياً للصغير والكبير فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النَّخَعِيّ: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق. الثانية ـ أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت:وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 237]. وقوله:فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [المائدة: 45]. وقوله:وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [النور: 22]. قلت: هذا حسن، وهكذا ذكر الكِيا الطبري في أحكامه قال: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة للّه سبحانه وتعالى وإقام الصلاة وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النَّخَعِيّ أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق فهذا فيمن تعدّى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاً. وقد قال عقيب هذه الآية: { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ }. ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به وقد عقبه بقوله: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }. وهو محمول على الغفران عن غير المُصِرّ، فأما المصرّ على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه قاله ابن بحر. وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا. الثانية ـ قوله تعالى: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } قال العلماء: جعل الله المؤمنين صِنفين صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ }. وصنف ينتصرون من ظالمهم. ثم بين حدّ الانتصار بقوله: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي.

السابقالتالي
2 3 4 5