الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ }

فيه مسألتان: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ } الذين في موضع جرّ معطوف على قوله:خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [الشورى: 36] أي وهو للذين يجتنِبون { كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ } وقد مضى القول في الكبائر في «النساء». وقرأ حمزة والكسائي «كَبيرَ الأِثْمِ» والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة كقوله تعالى:وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]، وكما جاء في الحديث: " منعت العراق درهمها وقفيزها " الباقون بالجمع هنا وفي «النجم». { وَٱلْفَوَاحِشَ } قال السُّدِّي: يعني الزنى. وقاله ابن عباس، وقال: كبير الإثم الشرك. وقال قوم: كبائر الإثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها. والفواحش داخلة في الكبائر، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرح، والزنى بالنسبة إلى المراودة. وقيل: الفواحش والكبائر بمعنًى واحد، فكرر لتعدد اللفظ أي يجتنبون المعاصي لأنها كبائر وفواحش. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. الثانية ـ قوله تعالى: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي يتجاوزون ويحلُمون عمن ظلمهم. قيل: نزلت في عمر حين شُتِم بمكة. وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله كله وحين شُتم فَحلُم. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدّق به كلّه في سبيل الخير فلامه المسلمون وخطّأه الكافرون فنزلت: { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ـ إلى قوله ـ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ }. وقال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يردّ عليه شيئاً فنزلت الآية. وهذه من محاسن الأخلاق، يُشفقون على ظالمهم ويصفحون لمن جهِل عليهم يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه لقوله تعالى في آل عمران:وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 134]. وهو أن يتناولك الرجل فتكظِم غيظك عنه. وأنشد بعضهم:
إني عفوت لظالمي ظلمي   ووهبت ذاك له على علمي
ما زال يظلمني وأرحمه   حتى بكيت له من الظلم