الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } * { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }

قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } فيه مسألتان: الأولى ـ قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ } أي الذي له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ثم بيّن ذلك بقوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائرِ ما يكون الرجل بإقامته مسلماً. ولم يرِد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة قال الله تعالى:لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة: 48] وقد تقدّم القول فيه. ومعنى «شَرَعَ» أي نهج وأوضح وبيّن المسالك. وقد شَرَع لهم يَشْرَع شَرْعاً أي سنّ. والشارع: الطريق الأعظم. وقد شَرَع المنزِلُ إذا كان على طريق نافذ. وشرعت الإبلَ إذا أمكنتها من الشريعة. وشرعت الأديم إذا سلخته. وقال يعقوب: إذا شققت ما بين الرجلين، قال: وسمعته من أم الحُمَارِس البَكْرِيّة. وشرعت في هذا الأمر شروعاً أي خضت. { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } «أَنْ» في محل رفع، على تقدير والذي وصّى به نوحاً أن أقيموا الدّين، ويوقف على هذا الوجه على «عيسى». وقيل: هو نصب، أي شرع لكم إقامة الدين. وقيل: هو جرّ بدلاً من الهاء في «به» كأنه قال: به أقيموا الدين. ولا يوقف على «عيسى» على هذين الوجهين. ويجوز أن تكون «أن» مفسرة مثل: أن امشوا، فلا يكون لها محل من الإعراب. الثانية ـ قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور: " ولكن ائتوا نوحاً فإنه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقولون له أنت أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض... " وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أوّل نبيّ بغير إشكال لأن آدم لم يكن معه إلا نبوّة، ولم تفرض له الفرائض ولا شُرعت له المحارم، وإنما كان تنبيهاً على بعض الأمور واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة والبقاء واستقرّ المَدَى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظّف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات، ولم يزل ذلك يتأكّد بالرسل ويتناصر بالأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرّب إلى الله بصالح الأعمال، والزَّلَف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دِيناً واحداً وملة متحّدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم وذلك قوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي اجعلوه قائماً يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا ٱضطراب فمن الخلق مَن وفّى بذلك ومنهم من نكث:

السابقالتالي
2