الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } * { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ } علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته { ٱللَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } وقد مضى في غير موضع. ثم نهى عن السجود لهما لأنهما وإن كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في أنفسهما فيستحقان بها العبادة مع الله لأن خالقهما هو الله ولو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما. { وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ } وصورهنّ وسخرهنّ فالكناية ترجع إلى الشمس والقمر والليل والنهار. وقيل: للشمس والقمر خاصة لأن الاثنين جمع. وقيل: الضمير عائد على معنى الآيات { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وإنما أنث على جمع التكثير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر والمؤنث لأنه فيما لا يعقل. { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ } يعني الكفار عن السجود لله { فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } من الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } أي لا يملون عبادته. قال زهير:
سَئِمتُ تَكاليف الحياةِ ومَنْ يَعِشْ   ثمانِين حَوْلاً لا أبَا لَكَ يَسْأَمِ
مسألة: هذه الآية آية سجدة بلا خلاف واختلفوا في موضع السجود منها. فقال مالك: موضعه { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } لأنه متصل بالأمر. وكان عليّ وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله: { تَعْبُدُونَ }. وقال ابن وهب والشافعي: موضعه { وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وبه قال أبو حنيفة. وكان ابن عباس يسجد عند قوله: «يَسْأَمُونَ». وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي وأبي صالح ويحيـى بن وثاب وطلحة وزبيد الياميَّين والحسن وابن سيرين. وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبد الله يسجدون عند قوله: «يَسْأَمُونَ». قال ابن العربي: والأمر قريب. مسألة: ذكر ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: أن هذه الآية تضمنت صلاة كسوف القمر والشمس وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف. قلت: صلاة الكسوف ثابتة في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما. واختلفوا في كيفيتها اختلافاً كثيراً، لاختلاف الآثار، وحسبك ما في صحيح مسلم من ذلك، وهو العمدة في الباب، والله الموفق للصواب. قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً } الخطاب لكل عاقل أي «وَمِنْ آيَاتِهِ» الدالة على أنه يحيي الموتى { أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً } أي يابسة جدبة هذا وصف الأرض بالخشوع قال النابغة:
رمادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أُبِينُهُ   ونُوْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِع
والأرض الخاشعة: الغبراء التي تنبت. وبلدة خاشعة: أي مغبرة لا منزل بها. ومكان خاشع. { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ } أي بالنبات قاله مجاهد. يقال: اهتز الإنسان أي تحرك ومنه:
تراه كَنَصْلِ السيفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدى   إذا لم تَجِدْ عِند امرِىء السَّوْءِ مَطْمَعا
{ وَرَبَتْ } أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت قاله مجاهد.

السابقالتالي
2