الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } * { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } * { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }

قوله تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم: ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثَقَفيّ أو ثَقَفِيّان وقرشيّ قليلٌ فِقْهُ قلوبهم، كثيرٌ شحمُ بطونهم: فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ } الآية خرجه الترمذي فقال: اختصم عند البيت ثلاثة نفرٍ. ثم ذكره بلفظه حرفاً حرفاً وقال: حديث حسن صحيح حدّثنا هَنّاد قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عِمارة بن عُمَير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفرٍ كثيرٌ شحمُ بطونهم قليلٌ فِقهُ قلوبِهم، قرشيّ وخَتَناه ثَقَفِيّان، أو ثَقفيّ وخَتَناه قرشيان، فتكلموا بكلام لم أفهمه فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا، فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذ لم نرفع أصواتنا لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئاً سمعه كله! فقال عبد الله: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } إلى قوله: { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الثعلبي: والثقفيّ عبدُ يَا لِيل، وخَتَناه ربيعة وصفوان بن أمية. ومعنى «تَسْتَتِرُونَ» تستخفون في قول أكثر العلماء أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذراً من شهادة الجوارح عليكم لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عملَه، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. وقيل: الاستتار بمعنى الاتقاء أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: «وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أي تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ» بأن يقول سمعت الحقّ وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي «وَلاَ أَبْصَارُكُمْ» فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز «وَلاَ جُلُودُكُمْ» تقدّم. { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. روى بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } قال: " إنكم تُدْعون يوم القيامة مُفَدَّمة أفواهُكم بفِدام فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه "

السابقالتالي
2 3