الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } * { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

فيه خمس مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } والضّرَر الزَّمَانة. روى الأئمة واللفظ لأبي داود " عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيته السكينة فوقعت فخِذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثِقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سُرِّي عنه فقال: «اكتب» فكتبت في كَتِف «لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمْجَاهِدُونَ فيِ سَبِيلِ ٱللَّهِ» إلى آخر الآية فقام ابن أُم مكتوم ـ وكان رجلاً أعمىٰ ـ لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشِيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرّة الثانية كما وجدت في المرّة الأُولىٰ، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ٱقرأ يا زيد» فقرأت { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } الآية كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأنِّي أنظر إلى ملحقها عند صَدْع في كَتِف " وفي البخارِي عن مِقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } عن بدر والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذْ قد أضرّت بهم حتى منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السَّلام قال ـ وقد قفل من بعض غزواته: " إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادِياً ولا سِرتم مسِيراً إلاَّ كانوا معكم أُولئك قوم حبسهم العذر " فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساوياً، وفي فضل الله متّسع، وثوابه فضل لا استحقاق فيثيب على النية الصادقة ما لا يثبت على الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم. قلت: والقول الأول أصح ـ إن شاء الله ـ للحديث الصحيح في ذلك «إن بالمدينة رجالاً» ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السَّلام: " إنما الدنيا لأربعة نفر " الحديث وقد تقدم في سورة «آل عمران». ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر: " إذا مرِض العبد قال الله تعالىٰ: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ ". الثانية ـ وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجراً من أهل التطوع لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرَّفون في الشدائد، وتروّعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها.

السابقالتالي
2 3