الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }

فيه مسألتان: الأُولى ـ قوله تعالى: { وَلْيَخْشَ } حذفت الألف من «ليخش» للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر. وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم وأنشد الجميع:
محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفس   إذا ما خِفْتَ مِنْ شيء تَبَالا
أراد لتفْدِ، ومفعول «يَخْشَ» محذوف لدلالة الكلام عليه. و { خَافُواْ } جواب «لو». التقدير لو تركوا لخافوا. ويجوز حذف اللام في جواب «لو». وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها فقالت طائفة: هذا وعظٌ للأوصياء، أي ٱفعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم قاله ابن عباس. ولهذا قال الله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً }. وقالت طائفة: المراد جميع الناس، أمرهم بٱتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم. وأن يُسدّدوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يُفعَل بولده بعده. ومِن هذا ما حكاه الشيبانيّ قال: كنا على قُسْطَنْطِينِيّة في عسكر مَسْلمة بن عبد الملك، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم ٱبن الدَّيْلَمِيّ، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بِشر، وُدّي ألاّ يكون لي ولد. فقال لي: ما عليك ٰ ما من نَسَمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحَبّ أو كَرِه، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فٱتق الله في غيرهم ثم تلا الآية. وفي رواية: ألاَ أدلّك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه، وإن تركت ولداً من بعدك حفظهم الله فيك؟ فقلت: بلى ٰ فتلا هذه الآية { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ } إلى آخرها. قلت: ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القُرَظيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من أحسن الصدقةَ جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرْمَلة أخلف الله في ترِكَته " وقول ثالث قاله جمع من المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له مَن بحضرته عند وصيته: إن الله سيرزق ولدك فٱنظر لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدّق وأعتق. حتى يأتي على عامّة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته فنُهوا عن ذلك. فكأن الآية تقول لهم: كما تخشون على ورثتكم وذرّيتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوصِ بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك، ولكن يقول قدّم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى: { فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ }.

السابقالتالي
2