الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }

قوله تعالى: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } أي ما أصابك يا محمد من خِصب ورخاءٍ وصحةٍ وسلامةٍ فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جَدْب وشدّة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أُمّته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب وٱتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قاله الحسن والسَّدِّي وغيرهما كما قال تعالى:يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [الطلاق: 1]. وقد قيل: الخطاب للإنسان والمراد به الجنس كما قال تعالى:وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 1] أي إن الناس لفي خسر، ألا تراه استثنى منهم فقال «إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا» ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله { مَآ أَصَابَكَ } استئنافاً. وقيل: في الكلام حذف تقديره يقولون وعليه يكون الكلام متصلاً والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة والمعنى أفمن نفسك؟ ومثله قوله تعالى:وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [الشعراء: 22] والمعنى أو تلك نعمة؟ وكذا قوله تعالى:فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 77] أي أهذا ربي؟ قال أبو خِراشٍ الهُذلِيّ:
رَمَوْني وقالوا يا خُوَيلد لم تُرَع   فقلت وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ
أراد «أهم» فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الأخفش «ما» بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال النحاس: والصواب قول الأخفش لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأُبَيّ وابن مسعود { مَّآ أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَـٰبَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ } فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديثُ بذلك عن ابن مسعود وأُبيٍّ منقطع لأن مجاهداً لم ير عبد الله ولا أُبَيّاً. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أُحد أنهم عوقبوا عند خلاف الرُّماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهرهُ ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظَهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرُّماة فأخذ سَريّة من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّماة إلا صاحبُ الراية، حفظ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استُشهد مكانه على ما تقدّم في «آل عمران» بيانه.

السابقالتالي
2 3