الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }

فيه أربع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } شرط ومجازاة، و «ما» زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضَعَفة المؤمنين الذين قالوا: { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه بالمنافقين كما ذكرنا، لقولهم لما أُصيب أهل أُحُد، قالوا:لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران: 156] فردّ الله عليهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج بُرْج، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طَرَفة يصف ناقة:
كأنها بُرْج رُومِيٍّ تكفّفها   بانٍ بشيدٍ وآجُرٍّ وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان «يُدْرِكُكُم» برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله:
من يفعلِ الحسناتِ اللَّهُ يشكُرُها   
أراد فالَّله يشكرها. واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البُرُوج، فقال الأكثر وهو الأصح: إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المَبْنِيّة، لأنها غاية البَشَر في التحصُّن والمنعة، فمثّل الله لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصَّنة. وقاله ابن جُريج والجمهور، ومنه قول عامر بن الطُّفيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومَنَعة؟ وقال مجاهد: البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى { مُّشِيَّدٍة } مطوَّلة، قاله الزجاج والقُتَبي. عِكرِمة: المزيّنة بالشِّيدِ وهو الجِص. قال قتادة: محصّنة. والمُشَيَّد والمَشِيد سواء، ومنهوَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [الحج: 45] والتشديد للتكثير. وقيل: المُشَيَّد المُطَوَّل، والمَشِيد المَطْليّ بالشّيد. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال السُّدِّي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مَكِّيّ عن مالك وأنه قال: ألا ترى إلى قوله تعالى:وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج: 1] وجَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } [الفرقان: 61]وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً } [الحجر: 16]. وحكاه ٱبن العربيّ أيضاً عن ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: { فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } معناه في قصور من حديد. قال ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ. الثانية ـ هذه الآية تردّ على القدرية في الآجال، لقوله تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسَد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزُهُوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدّم الردّ عليهم في «آل عمران» ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفارَ والمنافقين. الثالثة ـ اتخاذ البلاد وبنائها ليُمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس، وهي سُنّة الله في عباده. وفي ذلك أدلّ دليل على ردّ قول من يقول التوكُّلُ ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عُدّة وزيادة في التمنع.

السابقالتالي
2