الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }

روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس " أن عبد الرحمن بن عَوْف وأصحاباً له أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلّة؟ فقال:«إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم». فلما حوّله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفّوا، فنزلت الآية " ، أخرجه النسائي في سننه، وقاله الكَلْبي. وقال مجاهد: هم يهود. قال الحسن: هي في المؤمنين لقوله: { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ } أي مشركي مكة { كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ } فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. قال السُّدِّي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فُرض كرِهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أي عندهم وفي اعتقادهم. قلت: وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله: { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي هَلاّ، ولا يَلِيها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابيّ كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيراً من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللَّهُم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا ٱنشرح بالإسلام جَنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدّة. والله أعلم. قوله تعالى: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } ابتداء وخبر. وكذا { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } أي المعاصي وقد مضى القول في هذا في «البقرة» ومتاعُ الدنيا منفعتها والاستمتاعُ بلذاتها وسماه قليلاً لأنه لا بقاء له. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " مَثَلي ومثَلُ الدنيا كراكبٍ قال قَيْلُولة تحت شجرة ثم راح وتركها " وقد تقدّم هذا المعنى في «البقرة» مستوفًى.