الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }

فيه سبع عشرة مسألة. الأُولى ـ قوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ } الابتلاء الاختبار وقد تقدّم. وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رِفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعةُ توفي وترك ٱبنه وهو صغير، فأتى عمُّ ثابت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن ٱبن أخي يتيم في حِجْري فما يحلّ لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. الثانية ـ واختلف العلماء في معنى الاختبار فقيل: هو أن يتأمّل الوصيُّ أخلاقَ يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، والإهمال لذلك. فإذا توسّم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئاً من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نمّاه وحسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصيّ تسليمُ جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبيّ فوجده رشيداً ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاقُ يده في التصرف لقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ }. وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون غلاماً أو جارية فإن كان غلاماً ردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً، أو أعطاه شيئاً نَزْراً يتصرّف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه فإن أتلفه فلا ضمان على الوصيّ. فإذا رآه متوخِّياً سلّم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كانت جارية ردّ إليها ما يُردّ إلى رَبّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزّالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلّم أيضاً إليها مالَها وأشهد عليها. وإلاّ بقيا تحت الحَجْر حتى يُؤنس رُشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: ٱختبروهم في عقولهم وأديانهم وتَنْمية أموالهم. الثالثة ـ قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } أي الحُلمُ لقوله تعالى:وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ } [النور: 59] أي البلوغ، وحال النكاح والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحَبل. فأما الحيض والحبَل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث فأما الإنبات والسن فقال الأُوزاعِيّ والشافعيّ وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب وأَصْبَغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي. وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السنّ. قال أَصْبَغ بن الفرج: والذي نقول به إن حدّ البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة وذلك أحبّ ما فيه إليّ وأحسنه عندي لأنه الحدُّ الذي يُسْهِّمُ فيه في الجهاد ولمن حضر القتال.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9